لم اكتب بعد روايتي و لا يبدو اني سأكتبها قريبا. لذلك كلما وقعت رواية بين يدي كتبتها من جديد من زاويتي ككاتب فاشل لحد الان و من عادة الكاتب الفاشل ان يكون ناقدا جيدا و هذا ما اطمح اليه الان.

لذلك فمناسبة قرائتي لرواية بنميلود الحي الخطير وفرت لي فرصة اعادة النظر في كثير من اسس حرفة الكتابة التي مازالت عندنا لم ترق لان تكون حرفة.




قرات مؤخرا رواية الحي الخطير للشاعر و الكاتب محمد بنميلود

الرواية التي احدثت صدى واسعا لدى كثير من القراء الفيسبوكيين و كذلك لدى جمهور الرواية عموما بحكم انتشار اسم كاتبها على الصعيد الافتراضي و كذلك لكون الرواية عالجت موضوع الهامش و اوغلت فيه بشكل كبير. كل ذلك اضاف للرواية عناصر قوة ميزتها عن باقي الانتاجات المغربية المحدودة اصلا. لكن كل هذا لا يعفي الرواية من وجود اختلالات في بنية النص الروائي

تبدأ الرواية بمراد السلاخ الراوي/البطل. المعتقل داخل زنزانة فردية. امضى خمس سنوات و مازالت امامه سنوات اطول. يخبرنا بكل شيء عن نفسه و عن سبب اعتقاله. يرجع الى طفولته و يغوص اكثر في ذاكرة حيه الخطير.

يتطور الحكي عموديا ذهابا و ايابا عبر الزمن. فيما يتطور افقيا عبر الاحداث العنيفة التي رسمت حياة البطل. لكن ما يجعل للحكاية سببا او اسبابا لتروى هي وعي غائم لدى البطل بمفهوم الصراع الطبقي. صراع بين طبقة مهيمنة تملك كل شيء و تعيش الرفاه و بين طبقة تقاوم للبقاء على قيد العيش. و كذا نضج في مفهوم الخير و الشر حيث تجاوز البديهة و صار بفعل فاعل. اضافة الى ثورته على باقي المفاهيم البسيطة الاخرى. كل هذا خلق لنا بطلا يرث الى حد ما هواجس راسكولنيكوفية

مرت الرواية بثلاثة مراحل المرحلة الاولي تتمثل في الصفحات العشرين الاولى التي اكد فيها الكاتب موهبته و قدرته على انتاج نص روائي. حيث يقدم لنا مراد السلاخ نفسه على طريقته الخاصة:

في جيبي الان علبة سجائر تحوي سبع عشرة سيجارة، عليها ان تكفيني طيلة هذه الواحد و العشرين يوما التي سأقضيها كاملة في هذه الزنزانة الانفرادية، بمتوسط سيجارة واحدة فقط في اليوم تقريبا دون ساعة شمس و دون كلام او اختلاط، و دون أي شيء قبل العودة الى زنزانتي العادية

المرحلة الثانية هي مرحلة التيه حيث فقدت البوصلة و اختلط لدي الراوي مع الكاتب مع البطل حيث ان الراوي مراد السلاخ داخل السجن يتميز بثقافة محترمة نظرا لقراءته العميقة لكتب خاله مجيد يصف لنا واقعه بلغة عالمة و لديه رؤية كمثقف لكنه بعد ذلك ينتقل الى الحديث بلغة اخرى هي لغة الزناقي و اسلوب ركيك لا ادري سببه هل ذلك راجع الى رغبة الكاتب في تقريبنا من ذلك الوسط الحقير . ام هو خزان الكاتب قد نفذ من اللغة.

المرحلة الثالثة هي مرحلة ملا الورق بالحكي دون مبرر فقط لاضفاء مزيد من الخطورة عن روايته حتى تستحق تسمية الحي الخطير لكني كقارئ لم اجد مبررا لكل تلك الوقائع ولا لكل تلك التفاصيل المكرورة :

لكن عبد المجيد طلب ان يصطحب سليمة الى كوخه ملتزما امام القوادة بعودتها صباحا و بعدم حدوث اي مشاكل. كانت القوادة تعرفه جيدا و تعرف زوجته المرحومة و ابناءه الدين غرقوا و تعرف كل شيئ عنه فهو جارها منذ سنوات طويلة،

كي لا يثيرا انتباه الفضوليين سبق عبد المجيد سليمة بامتار متحفزا اثناء مشيته و تبعته كأن كل واحد منهما يقصد سبيلا. ترك لها باب الكوخ مفتوحا، تلفتت يمينا و يسارا ثم دخلت و أغلقت الباب

لم تصمد لغة بنميلود امام تسلسل احداث الرواية و لم تنتقل رؤيته الى مستويات اعمق و اعقد. اما شخصيات الرواية فلم يصبها ادنى تطور على مستوى الزمن الروائي. و لم تفتك لنفسها اي حيز نفسي داخل وجداني او مكاني داخل الصفحة فالاحداث و صراع الشخصيات كانت تماما كما نقرأ في الجرائد السيارة. اذ هناك غياب فادح لاي لحظة ذروة او على الاصح هناك فشل في الارتفاع بالاحداث الى مرحلة الذروة. هنا يتبادر الى ذهني مقطع صغير لمحمد شكري عن مقتل اخيه

أخي يبكي، يتلوى الما، يبكي الخبز أراه يمشي اليه، الوحش يمشي اليه. الجنون في عينيه. يداه اخطبوط. لا أحد يقدر أن يمنعه. أستغيث في خيالي. وحش. مجنون. امنعوه يلوي اللعين عنقه بعنف. أخي يتلوى. الدم يتدفق من فمه

و هذا مقطع لبنميلود عن اعتقال خاله

كنت صغيرا جدا حينها على فهم ما يحدث، و لم اره قط في حقيقة الامر بل في خيالي ….

او هذا عن تاثر امه الشديد بخطف خاله

كان تعلق امي به كبيرا جدا خصوصا كلما أحبطها ابي أكثر او صفعها او سبها أو باتت بلا عشاء، تحتضن صورته و تبكي. ثم تحدثني عنه راجية من الله أن اكبر بسرعة لاحميها مثلما كان يحميها.”

ناهيك عن وهن الخيط الناظم داخل الرواية و كذا جفاف الاسلوب الذي ضيعت علي كقارئ الانقطاع عن العالم و الغوص في عوالمها.اذكر اني لما قرأت الاعمال الاولى لكتاب غبت عن عالمي الحقيقي منذ الصفحة الاولى الى الاخيرة. صنع الله ابراهيم في تلك الرائحة ابرزهم.

يكمن سر نجاح الكاتب في جذب انتباه القارئ هو تلك القدرة الدقيقة على اختيار الايقاع الجيد للرواية و المحافظة على تناسقه و عدم الاخلال به على طول الكتابة. تماما مثل الايقاع المنتظم للحضرة الكناوية او الجيلالية.حيث ان المصاب بحال الجلالة يكون مغيبا تماما عن الوعي و يستطيع القيام بافعال خارج المنطق من اكل لزجاج و طعن نفسه. و لكي يستمر المصاب في حالته دون اذية نفسه على صاحب الايقاع و هو هنا الموسيقي الذي يضرب الهجهوج او التارة ان يحافذ على نفس النغمة و الا كان الموت او الاذى نصيب المصاب .

ان القارئ حين يتعرض لنشاز اثناء القراءة تكون اصابته ابلغ من اصابة المممسوس بالارواح و وفاته تكون معنوية بامساكه التام عن فعل القراءة.

ان الكاتب بنميلود تعمد في اكثر من مرة اقحام وجهة نظره و اعطى اسبابا و نتائج لمعادلة ليس بالضرورة ان يؤديا الى بعض لدرجة انه خاطر بكشف نفسه داخل مختلف مراحل السرد من خلال تركيب الاحداث و صوغها بطريقة تؤدي الى ثنائيات تخلق احداثا داعمة و مفسرة لوجهة نظره من قبيل الفرد في مواجهة الدولة او المافيا مقبل النظام الحاكم او ارهاب الاشخاص في مواجهة ارهاب الدولة مما يطرح سؤال الانفلات الشخصية و الاحداث من الكاتب و هاته مسالة ضرورية حتى تتحقق للرواية شخصيتها و هذا مالم يحصل لرواية الحي الخطير. ان الكاتب هنا اراد ان يقوم بكل الادوار الناشط السياسي و المغامر و صاحب وجهة و نظر و غير ذلك. مما يجعلنا نستذكر مقولة كونديرا دور الرواية هو اكتشاف ما يمكن للرواية وحدها دون سواها ان تكتشفه

ان رواية الحي الخطير خلقت حالة نقاش مهمة في الاوساط الادبية. تمتلت في كم كبير من المقالات تناولت العمل بكثير من الاحتفال دون وجود اثر لنقد يتطرق الى النواقص مما خلق لدي رغبة في السير عكس التيار و الاسهام بوجهة نظري.

Oeuvre de la série “Eclosion” du Chapitre “In Cellula” révélée sous lumière blanche (haut) et sous lumière noire (bas) Technique Aquarelle introspective, art digital Artiste : Reem Saad

 

Adriana Vidano ©

موقف حزين

أن ترى فرحة الورود وهي تغادر

يقفون على أرصفة الموانئ

بحارة ومغامرون بلا مراكب

صعاليك المدينية المقبلون

يغتسلون بدموع الأمهات

ينزعون لحاف البراءة

يضمّدون جراح الأرض بحرقة الفراق

في صرّة كل رحّالة ذكريات الأمس وأحجيات الغد

غصن ندي وحفنة تراب وبرعم لوز يفوح برائحة الأمنيات

هناك في الجزء الأيسر العلوي من الجذع الندي قلب يخفق حلما

بائس هو هذا الحلم وتعيس

بائس كل حلم يسلبنا الجذور

يروي أوراقا تتساقط على أرض غير أرضنا

لن يثمر هذا الجذع براعم لربيع الساحات

لن يثمر إلا لحاء أخرس وصمغا مرا وسوسا ينخر العظام

لن يثمر سوى المزيد من الأحلام المخضّبة بطعم الكحول

أتخلل بين الزحام لأرى مصدر الدخان الكثيف الذي يتصاعد للأعلى، أزحف حتى أصل الى الأمام فترى عيني مبنى محطم سقفه لتغادره أبخرة سوداء.
يحدق الجميع في ذهول وصمت ومن وقت لآخر أسمع صيحة (فليطلب أحد الإسعاف).
ألمح رجلا أعرج يهرول خارجاً من ذات المبنى يرتدي جلباباً أسود مشوش شعره، وبعد دقائق تخرج امرأة تحمل طفلاً يسيل الدمع من عينها سيلاً لا ينقطع ليقطر من ذقنها قطرات متتابعة وتكشف عن عين حمراء حزينة، وتنطق بآهات وكلمات لا أعرفها، تراقص ولدها وتهزه بعنف ولا يُسمع صراخ منه ومن ثم تحتضنه وتقبله.
أراقب متسمراً صامتاً مثل الجميع وكأن أمامنا خط أحمر مرسوم يمنعنا من التقدم أكثر.
فجأة أسمع صراخاً وصيحات وقد التفتت أعين المشاهدين إلى موضع آخر، أحاول تبين ما يقولون ولكن الصياح طاغٍ وأذني تكاد تُثقب من شدته.
أسمع دوي سيارة الإسعاف وقد اقتربت من المبنى، وقد هدأ الناس إلى حد ما، فالتقط جملة مما كانت تقال في ثورتهم (تباً للإسعاف يصل بعد خمس عشرة دقيقة)، وآخر يقذف حمماً تتلظى من فمه إثر وجه بركاني غاضب (لا يبقى في تلك الدولة سوى
البعير.. حكومة بنت (لفظ خارج) ورؤساء ولاد (لفظ خارج))، ثم يقذف آخر حممه بصقة على الأرض.

أدلف إلى بيتي بعد أن عدت من عملي ومن ثم أبدل ملابسي لأمدد جسدي على السرير فأغمض عيني تاركاً روحي تغوص في هالته السوداء الموحية بالنوم والسكينة التي تجتذبني منذ دخلت لأقفز فيها.

أريح جسدي قليلاً ثم أقوم فأشغل التلفاز، يظهر على الشاشة حطام مبانٍ إثر تفجير قنبلة وجثث مترامية انتشل الناس بعضها من عمق الحطام وأسمع صوت المتحدث يأتي باسم فلسطين.

أحول الى القناة التي تليها لأسمع من يعدد أعداد ضحايا اليوم في سوريا.

أضغط على الزر التالي لأرى شخصاً يلبس زياً عسكرياً يقول إنهم تمكنوا في الجزائر من إحباط محاولة تفجير انتحارية.

يظهر على وجهي العبوس نتيجة لمحاولات القدر في الحيلولة بيني وبين سعادتي، ففي الصباح أرى كنيسة مفجرة والآن وبعد أن عدت من عملي راغباً في الراحة، تفزعني تلك الصور والأحداث في بلاد عربية، ولو صبرت أكثر لرأيت المزيد.

ولكن لا بأس، لابد من بعض الطرب والإنعاش فالعالم ما زال يملك بعضاً منه.

أضغط أزرار الريموت لتظهر القناة التي آملها.

قناة الرقص الشرقي، لتمتع عيني راقصة تعجبني حركاتها ورشاقتها، يصفق الجمهور من وقت لآخر ويتجلى صوت مهرجان مصري من النوع الذي يجبرك على الاندماج معه لتجد أطرافك تتراقص من تلقاء نفسها.
-(بخ).
أنتفض من مكاني فزعاً إثر ما قذف في أذني.

*****

-أفزعني وأنا ذاهب لعملي دوي انفجار سمعت إثره صراخ وصوت ارتطام صخور.
أسرعت تجاهه فإذا بكنيسة الحي المقابل يتصاعد منها الأخبرة والناس يتجمعون (احمر وجهه غضبا وهو يكمل نطق حروفه بحدة ويقبض على يده بشدة) وكأنه حدث تاريخي مر عليه مائة عام ويشاهدون الآن عبر التلفاز.

انسللت وسط الزحام عابراً الى جهة الحادث وأنا أهاتف الإسعاف لكي يسرعوا ومن ثم ناديت في الناس عندما عبرت لكي يأتي معي أحد لننقذ من تبقّى حيا وأسرعت للداخل وأنا أسترق نظرات الى الخلف لأتبين أتبعني أحد أم لا ولكن… (زم شفتيه).
وجدت قسيسا يحاول رفع صخرة عن قدمه ولكن لا يستطيع فساعدته في حملها، وامرأة هائجة فوق كومة حطام تحاول رفع ما تستطيع منها باحثة عن شيء ما بالأسفل، كان الدمع يسيل من عينيها وتبكي وتشهق، تنتقل من هنا لهناك وتنادي على من يساعدها، غمرني شيء من الحزن الذي كان ينبعث منها مسيطراً على الأجواء (تتجمع الدموع في عينيه) حاولت مع جمع من الحاضرين نزع الحطام، حتى تكشف عن صبي لم يبلغ الرابعة بعد (صمت وشخصت عيناه في الفراغ).

أخي اسمه (مالك) يبلغ الثامنة والعشرين، تخرج من كلية الهندسة عين شمس وكان يعمل في السعودية إلى شهر من الآن، حيث إنهم استغنوا عن عدد كبير من المصريين في مختلف المجالات واحتدت المعاملة بين الطرفين بسبب أحداث تيران وصنافير.

لم يتزوج بعد، ويعمل الآن في محل بقالة الى أن يجد عملاً هنا، دخل إلى البيت وانا أشاهد التلفاز فأفزعني ومن ثم جهز الغداء وأتى به وبدأ في الأكل حتى بدأ في سرد ما سايره اليوم ولم يضع لقمة في فمه.

-(يكمل) حكى لي شخص قابلته في سفري قصة لن أنساها أبدا، يتكلم حمار فيقول (كنا، نحن معشر الحمير، سابقاً نتحدث بلغة خاصة بنا، أسوةً بكم معشر البشر، هذه اللغة كانت جميلة وغنية، ولها وقع موسيقي جذاب كنا نتكلم ونغني. لم نكن ننهق مثلما عليه الحال الآن. لأن النهيق بدأ عندنا فيما بعد، وتعلمون أن جميع حاجاتنا ورغباتنا وحتى عواطفنا، نعبر عنها الآن بالنهيق.

ولكن ما هو النهيق؟ هاق، هاق.

هو عبارة عن مقطعين صوتيين، أحدهما غليظ وثخين، والآخر رفيع، يصدران الواحد إثر الآخر.

هذا هو النهيق.. الذي بقي في لغتنا ، لغة الحمرنة، لكن كيف تغيرت هذه اللغة حتى أصبحت بهذا الشكل؟

لجم الخوف ألسنتنا وذهب بعقولنا، وبسبب الخوف نسبنا للغتنا الحميرية.
في غابر الزمان كان يلهو حمار هرِم وحده في الغابة، يغني بعض الأغاني بلغة الحمير ويأكل الأعشاب الغضة الطرية، وبعد فترة من اللهو تناهت إلى منخريه رائحة ذئب قادم، من بعيد. رفع الحمار رأسه عالياً وعبأ الهواء ملء رئتيه وقال: لا يوجد رائحة ذئب، لا، لا ليست رائحة ذئب ، وتابع لهوه قافزاً من مكان إلى آخر، ولكن الرائحة أخذت تزداد كلما دنا الذئب أكثر. هذا يعني أن المنية تقترب.

– قد لا يكون ذئبا ، قد لا يكون، ولذلك حاول الحمار الهرم أن يطمئن نفسه، إلا أن الرائحة كانت تزداد بإطراد، فلما ازداد الذئب اقترابا ، كانت فرائص الحمار ترتعد رعباً، ومع ذلك كان يحاول إقناع نفسه بأن القادم ليس ذئباً.

 – إنه ليس ذئباً، إن شاء الله كذلك، ولم يكون كذلك؟ ومن أين سيأتي وماذا سيفعل؟
وهكذا ظل الحمار الهرم يخدع نفسه، حتى بات يسمع صوتاً غير مستحب، صوت دبيب الذئب القادم.

– إنه ليس ذئباً، لا ليس صوت ذئب، ولا يمكن أن يكون كذلك، وماذا سيعمل الذئب هنا، ولم سيأتي؟؟؟
ومع اقتراب الذئب أكثر فأكثر أخذ قلب الحمار يخفق وعيناه ترتجفان، وعندما حدق عالياً صوب الجبل، رأى ذئباً مندفعاً مخلفاً وراءه سحباً من الغبار.

– آه آه.. آه إنه ذئب، وكنت أحلم بذلك؟ قد يكون خُيِّل إليّ أن ما أراه ذئب أو كنت أحلم بذلك.

وبعد فترة ليست طويلة رأى ذئباً قادماً من بين الأشجار، مرة ثانية حاول أن يطمئن نفسه قائلاً:

– أتمنى أن لا يكون ما أراه ذئبا ، إن شاء الله لن يكون كذلك، ألم يجد هذا اللعين مكاناً آخر غير هذا المكان؟ لقد أصاب الوهن عيني، لذلك أخذت أرى هذا الشيء ذئباً قادماً.
تقلصت المسافة بينه وبين الذئب حتى أصبحت خمسين متراً. أيضا حاول طمأنة نفسه قائلاً:
– إن شاء الله أن يكون ما أراه ليس ذئباً، قد يكون حملاً أو فيلاً أو أي شيء آخر. ولكن لِمَ أرى كل شيء بهيئة ذئب؟
– أعرف تماماً أن ما أراه ليس ذئباً، ولكن لِمَ لا أبتعد قليلاً.
أخذ الحمار الهرم يبتعد قليلاً ناظراً إلى الوراء، أما الذئب فقد اقترب منه فاغراً فوهه.
– حتى لو كان القادم ذئباً ماذا سيحصل… لا، لا لن يكون ذئباً، ولكن لم ترتعد فرائصي؟

جهد الحمار الهرم أن تكون خطواته أسرع، حتى بات يركض بأقصى سرعة أمام الذئب المندفع.

– آه كم أنا أحمق فقد صرت أظن القط ذئباً وأركض هكذا كالمعتوه، لا ليس ذئباً…

زاد الحمار من سرعته حتى أخذت ساقاه ترتطمان ببطنه ومع ذلك استمر في خداع نفسه قائلاً:
– حتى لو كان الذي أراه ذئبا ، فهو ليس كذلك، إن شاء الله لن يكون كذلك.

نظر الحمار الهرم وراءه فرأى عيني الذئب تشعان وتطلقان سهاماً نارية، وتابع ركضه مطمئناً نفسه بقوله:

– لا، لا يمكن أن يكون ذئباً.

نظر الحمار خلفه عندما شعر بأنف الذئب يلامس ظهره المبلل، فوجده فاغراً فمه فوق ظهره.

حاول الركض إلا أنه لم يستطع ذلك لأن قواه خانته، فأصبح عاجزاً عن الحراك تحت ثقل الذئب، ولكي لا يراه فقد عمد على إغلاق عينيه وقال:
– أعرف تماماً أنك لست ذئبا.
لا تدغدغ مؤخرتي إني لا أحب مزاح اليد.
غرز الذئب الجائع أسنانه في ظهر الحمار الهرم، ونهش منه قطعة كبيرة، ومن حلاوة الروح، كما يقولون، إرتبط لسان الحمار ونسي لغته.

– آه آه إنه ذئب آه، هو آه هو …..
تابع الذئب النهش من لحم الحمار الهرم ذي اللسان المربوط، حيث لا يصدر منه سوى آه هو … هاق …. هاق.
منذ ذاك اليوم نسينا أيها السادة، ولم نستطع التعبير عن رغباتنا وأفكارنا إلا بالنهيق)، انتهت القصة، ألم يخطر ببالك ما علاقتها بواقعنا الحالي.

-(أضع سبابتي على فمي مفكراً) اممم… تقصد أن الغرب يتآمر علينا ونحن لا نعي ذلك وسوف نكون ضحيتهم إن لم نفعل شيئاً.
-إن لم نفعل شيئاً! صحيح إن لم نفعل شيئا سنكون ضحية ولكن لأننا ضعفاء وليس لأنهم يتآمرون علينا، ليسوا بحاجة للتآمر علينا فلسنا أقوياء وأساطير لكي يتآمر علينا لإسقاطنا من هم أقل منا، إننا فقط نخدع أنفسنا بذ…

-(قاطعته متعجلاً، يبهرني كل مرة برأي لم أسمع به قط لا أدري من أين يأتي بها) إذاً فما العلاقة بين القصة وما يحدث؟

-(ابتسم ابتسامة خفيفة) حسناً، لقد كنت على وشط إخبارك بغير سؤالك ولم أنتهي بعد ويبدو أنه بمقاطعتك نسيت ما أقول.

(آخذ نفساً عميقاً وأريح ظهري على الكرسي).

-آه لقد تذكرت.. إن الوضع على العكس تماماً مما تقول. إن الصراع يكمن في بلاد الغرب، فيما بين بعضهم وبعض، أمريكا وروسيا والصين وأروبا واليابان، والصراع بينهم يتخذ صوراً غير مباشرة كالتقدم الصناعي وتطور الأسلحة والتسابق الفضائي وحروب الحاسوب والتجسس، أظنك سمعت بها، كل منهم يحاول حماية نظامه بلحمه ودمه وبكل الطرق الممكنة ولا وقت لديهم لذكر اسم العرب حتى، وتضم تلك الدول نظماً كالشيوعية والليبرالية والرأسمالية، كل منهم مختلف عن الآخر ويحاول فرض نفسه على مناطق أكبر من العالم، أما نحن .. نحن كالقشة في مهب الريح لا تملك رداً أو صداً لأتفه الأشياء. (صمت وأخذ نفساً عميقاً).

-هل انتهيت الآن؟
-نعم (قال وهو يلتقط المعلقة ويغمسها في الخضار ليغرسها مرة أخرى في الأرز)
-لم أفهم العلاقة بعد، رأيك متباين كالعادة عن الجميع ومقنع الى حد ما.
-(قال بعد أن ضحك) ألم تفهم بعد ما أرمي اليه، ولماذا نحن ضعفاء!
-(أهز رأسي نافيا).
-(وقف ثم استدار خارجاً من الغرفة) حسناً سوف أنام الآن ونكمل فيما بعد (يكتم تثائبه بيده).

******

أتقلب في رقدتي على مضجعي لا يأتي لجفنيّ أي رغبة في النوم.
أستقر على ظهري لأرى خطوطاً ذهبية مشدودة الى النافذة، تخترق الظلام الحالك وتظهر استيلاءه على الهواء عديم اللون، يسخره لصالحه فيستر به جمال كل شيء، يبدد الضوء شيئاً من الظلام كاشفاً عن زخرفات ملونة تزين السقف.
تماماً كما نرى في عالمنا، فبسهولة يُجند من هم مثلي ونسخر لصالح الظلم فنبيد كل جمال، وينير لنا العاقلون شيئاً من الجمال يكون بصيص أمل سرعان ما نحكم بإعدامه بأيدينا، غيرنا الذين ما أفضوا ما بداخلهم إلا لسعادة غيرهم.
ما أنا إلا موظف قارب الأربعين، يذهب كل صباح الى عمله الحكومي ليسجل حضوره ويشرب فنجانين من القهوة ويكمل وقته في الحديث مع زميله في المكتب أو يتصفح الانترنت من حاسوب العمل الذي انقرض نوعه من زمن ومن ثم يسجل انصراف بعد مراجعة ورقتين مما أعطتها لي زميلة في العمل لأمررهم للمكتب المجاور ليكمل الإجراءات.
راتبي يكاد يكفي شخص واحد وهو أنا، ولم أتمكن من الزواج بعد، ولا أملك غير تلك الشقة التي ورثتها أنا وأخي من أبي. تتشكل الخطوط في السقف على صورة الرجل الذي خرج مهرولاً والمرأة التي تحمل الصبي، وصورة أخي وهو تترقرق عيناه. ترن كلماته في أذني من جديد (ألا تعلم لم نحن ضعفاء أو لماذا نحن كالقشة في مهب الريح).
لا تظهر أي علامة على أني سوف أنام الآن والجو خانق هنا، أقرر أن أنزل إلى القهوة أسفل البيت لأجلس فيها.
أنزل الى القهوة أجد عدداً من الناس يملؤها، بين لاعب (كوتشينة) ولاعب (دومنه)، ومن يناول صديقه (الشيشة)، ومن يشاهد التلفاز بصمت.
صوت مهرجان محمد رمضان (أديك في السقف تفحر) يتعالى على أصوات الجميع، وشاب يعمل لا أظنه تجاوز العشرين، يهرول من هنا لهناك إما يبدل حجر (الشيشة) أو يضع أكواب القوة والشاي.
أتخذ موضعاً بالقرب من الشارع الرئيسي وأطلب كوب ينسون.
أحاول أن أفكر أين وقفت عن التفكير قبل أن أنزل الى هنا.
آه لقد تذكرت ..
إنها كلمات أخي يقول أننا لا يمكن أن يتآمر علينا أحد فنحن لا نساوي شيئاً يُذكر بالنسبة إليهم.
ماذا لدينا سوى شباب عاطلين وآخرين على القهاوي وموظفين لا يقدمون شيئاً، والأغلب آثروا الشركات الخاصة ليعملوا فيها ما يقارب العشرة ساعات، يعودوا يعدها كالموتى الى بيوتهم لا يملكون طاقة لحق زوجة أو لتربية أولاد، ليقفزوا إلى قبرهم ويسرعون صباحاً إلى جحيمهم، لتسرق أعمارهم وصحتهم مقابل (ملاليم).
(هاق… هاق) صوت حمار يأخذني من تفكيري ليعيدني الى موضعي فأعود أتامل الناس وأسمع صوت المهرجان يطغى.
أنظر تجاه صوت الجمار لأجده مربوطاً إلى شجرة على الرصيف الذي ينصف الشارع نصفين، يملأ روثه الأرض والذباب يتناثر حوله.
تلمح عيناي الشجرة وقد تلألأت أوراقها تحت ضوء عمود الإنارة.
تريح أوراقها الخضراء عيناي عند النظر إليها فأظل محدقاً بها.
أتصورها وهي تمتص غذاءها من باطن الأرض لتبعثه الى أوراقها، في اتجاه معاكس للجاذبية متحدية القوى العظمى على الأرض، وتبعث بجذورها لتمتد في أعماق الأرض فتلتصق بها منتصبة قائلة للجاذبية لا أحتاجك.
غذائها الماء وبعض أملاح التربة تعيش بهم ألوف السنين، تؤدي خلالهم مهمتها بكل إتقان وسلام ولا تأكل غير ما يكفيها.
تنثر لنا غازنا الذي نتنفس لنحيا ونأكل اللحم والسمك ونشرب المشروبات الغازية وها أنا أقعد لا قيمة لي ولا يدل على حياتي غير إمضائي في عملي وقاذوراتي التي تصل الى الصرف الصحي.
نحن الذي سخر العالم لأجلنا لكي.. لكي ولسبب واحد هو تعمير الأرض أو الكدح فيها ولو بشيء بسيط، فمن لا يفعل ذلك فلا يحق له ذبح دجاجة ليأكلها، فهي لها حق في الحياة مثله تماماً.
أما هي فتعمل بصمت، تبهج أعيننا بلونها الأخضر وينضم اليها الطير صباحاً ليطرب آذاننا ويحرك أشجاننا ولا تحتاج غازنا كما نحتاجها، فهي صباحا تنثر الأكسجين و مساءاً تتنشقه.
(شابو) لك أيتها الشجرة.
التقط كوب الينسون وأفرغه في جوفي دفعة واحدة.
لقد نشط أخي حاسة التفكير لدي من جديد.
بعد أن رأيت جاري يُسحل أمام زوجته وأولاده فور عودته من مظاهرة كان فيها احتجاجاً على رواتب الموظفين.
فاتخذت عهداً ألا أفكر كثيراً في أي شيء، وآرائي واعتراضاتي أدفنها بداخلي.
وأحيانا ألتهم السجائر بعنف آملاً أن تقذف معها موجات غضبي التي تصدر عني لتصرع بصمت ذلك الفساد.

******

-ولكن كيف…
أستيقظ فزعاً على صراخ أخي.
-(يتابع ونبرته يغمرها الحزن) كان عائداً معي في المطار هو وزوجته من السعودية…
أترجل من السرير وأتوجه تجاه غرفته.
-(صوت التلفاز) أنا حسام السيد، أعترف بأنني من كنت وراء عملية التفجير الحادثة بالأمس في حي … (صوت أنثوي) هذا وقد أنبأتنا مصادر أخر… ( انقطع التلفاز).
-ما لك؟
(يرفع يده اليسرى أن اصمت وبيده الأخرى يمسك هاتفه، ينظر أرضاً وتتساقط دموع من عينه).
أذهب لأغتسل وآكل لقمة ومن ثم أذهب لعملي.
كالعادة أبدأ يومي بشرب فنجان قهوة من تحضير زميلتي وأتصفح الفيس بوك.
أتى إليّ إشعار بأن (مالك عواد) قد أشار إلي في منشور لأراه.
هو صاحب المنشور، وقد نشره من (Dr. Hossam Elsaid). أفتح المنشور لأرى اسم أسبوع، ويكتب فيه الآتي.
-قرأت ذات يوم قصة ل (عزيز نيسين) الكاتب التركي، يقول فيها (آه منا معشر الحمير…
(القصة كاملة في الصفحة الثانية) …).
أفضفض ما بداخلي من كلمات لا أريد أن يقرأها غير من وعى علام أرمي في قصتي..
إلى من يتسع خيالهم لفهم ما وراء الأحداث…
الى من لا يريدون من الدنيا سوى العيش في سلام مع أنفسهم ومع الناس…
الى من تخلو أنفسهم من أمراض الطمع والغرور والرغبة في التحكم في الناس
والتشديد عليهم…
الى من يدركون الشيء قبل وقوعه من علاماته التي لا تستعصي عليهم…
الى من تطغى مبادئهم السامية وفطرتهم الإنسانية على عقولهم قبل أن تتسرب إلى عقول غيرهم…
إلى من هواه وعبادته وصلاته التي يبث فيها لله سره ونجواه هو صلاح الجميع…
أعري أمامك ما بصدري لأخفف عني ما يجتاحني ويؤرقني ويذرف الدمع من عيني،لأقذف كلمات كالحمم، تخشى اقترابها منك فتشوهك، لتسرع راكضاً في سبيل نجاتك…
نحن العرب نعاني أزمة هشاشة العلاقة بين بلادنا وبعضها وبين أفراد البلد الواحد وبعضهم.
لا نسمع حاكماً يريد توطيد العلاقة بين بلد وآخر ولا ينادي أيضاً بتوحيد أفراد شعبه.
بدأت بالفعل الحروب بين البلاد العربية وبعضها وبين أفراد الشعب الواحد وترى بأم عينك ذلك.
لا يأتي ذكر تقدُّم أو علم وإلا يتم الإعلان عن اكتمال منشأ سكني أو بناء برج أو كوبري.
هذا ما تغير في تلك البلاد إضافة على رزم الأموال التي تضاف الى جيوب الأغنياء أو التراب الذي يأكله الفقير ليسد جوعه.
مثل حيوانات ترعى في مزرعة حديثة البناء ويأكلون أشهى المأكولات وآخرون على النقيض.
من ينادي اليوم بالتقدم تراه غدا في نشرة الأخبار توفى في حادثة سير، ومن ينادي بثورة رفضا لتلك الحياة البائسة، يُسحل أمام الخلق ليكون عبرة ومن ثم يعيش حياة
أبأس منها في السجن.
انتشر الخوف في كل مكان، وتجسدت الأنانية في نفوس مريضة تحارب إخوانها وجيرانها بأيديهم إن أرادوا ما يخالف رغبة الحاكم، خوفاً من نظرة غضب منه أو ارتفاع الأسعار كعقاب منه.
يظن هؤلاء أنهم يعيشون، أقصد من يساعد على بقاء الظلم إلى أن يصير جزءاً منه، مهما كانت وظيفته ومنزلته.
يخدعون أنفسهم، يظنون أنهم برضا الحاكم يمكنهم العيش سعداء.
لا يدركون أن هناك قانوناً خفياً في النفس يزرع في قلبها نوراً وسعادة إن أدت صالحاً
ويزرع ظلاماً وتعاسة تلقائية إن أدت فساداً، إلى أن يفقدوا كل إنسانيتهم فيتحولون إلى حيوانات وشياطين، عقيدتهم البقاء للأقوى والأمكر.
تسير في الشوارع فترى صناديق القمامة تحيطها القمامة من كل جانب ويعلوها الذباب، وما إن تقترب منها حتى تراها فارغة ونظيفة.
تكمل طريقك لتفاجأ بمن تقذف بجانب قدمك حفاظة طفلها.
نعيش في سجن لا بأس به.. نفقد عروبيتنا شيئاً فشيئاً.. لتنقطع أنفاس من لهم أنفاس.. ومن ثم.. تختفي.
لغتنا تداس بالأقدام، تتصفح عدداً من المواقع العالمية فلا تجد للغة العربية مكاناً بين لغاتها.
متاجرنا نفخر باسمها الأجنبي، ونسمي المرء متحضراً إن ضم بعض تلك الكلمات الأجنبية في حديثه.
نعيش في عالم بدائي بسيط، وفريسة سهلة للغرب، وإن وقعنا تحت حكمه ولم يعجبنا الوضع أظننا سنلعن القدر.
تنظر إلى البلاد الاخرى فترى اليابان وقد عظمت وقويت بعد أن أبيدت، والهند ورغم دياناتهم التي لا تعد ولا تحصى وجدت طريقة لتوحيدها، واتفاقها، وانتشار التقبل والأخلاق بينهم.
وأمريكا التي لا تكفي ساعات اليوم لديها لفعل ما تريد.
كلهم يحاولون حفظ الأمن في كل مكان بتقدمهم وأسلحتهم، بلحمهم ودمهم، ونحن لا نقوى على ردع انفجار قنبلة.
نحن كما قال (د. مصطفى محمود) سنكون بعد عشرات السنين بالنسبة للغرب كالقرد بالنسبة لبني البشر إن لم نفعل شيئاً.
لا أريد لنفسي ولا لأبناء بلدي أن نكون كذاك الحمار في القصة نظل نخدع أنفسنا بأننا نعيش وإنما بقنبلة واحدة نووية من الملايين التي لدى أي دولة غير عربية مهما كانت، يمكن أن نباد.
نعيش الآن فقط لأننا تحت رحمتهم كلياً.
نحن كالغزال بالنسبة للأسد، إن أراد الانقضاض عليها لَفعل في أي وقت شاء، وهي حتماً فريسة سهله وسيأكلها.
“كل شيء يبدأ بالإنسان وينتهي به”.
إن أردت تغيراً فابدأ بنفسك، وتلقائياً ستجد غيرك يحبك ويقتدي بك، واسع بفريقك نحو الأمام وحاربوا الظلم والطغيان، وواسوا المظلومين والضعفاء وخذوا بأيديهم.
توحدوا ولا تجعلوا أتفه الأشياء تفرقكم، واحترموا اختلافكم، وآرائكم المتباينة.
تقو بالعلم والأخلاق، والإيمان بالحرية، وبحقك كإنسان أن تعيش إنسان.
وافخر بأنك عربي ابن عربي، واعتز بلغتك، وكن نظيفاً منظفاً.
وإن لم ترد…
فطوبى لشعب أراد التغير وإن قلت له أن يتغير لأجل ذلك قال عندما تتغيرون أولاً،
طوبى له دوام ظلم يريده وفضّل استمراره وعشق أن يكون جزءاً منه عندما انتشر،
وسوف يطغى عليه ويدفنه بين طياته.
انتهى المنشور.
الآن فهمت مغزى القصة ولماذا هو بالذات من اعتقل.

فجأة عشقت الليل
عدت إلي عادتي القديمة
كتاب أنيق وسيجارة مطفأة وفنجان قهوة لا أشربه
أكتفي باستنشاق الرائحة
أنتظر السائل الأسود حتّى يبرد
أمزجه بالوسكي
أترشّفه
أنا الخمسيني الضحوك
أجلس بوقار كهل حقيقي
لا أفعل شيئاً
أجلس دون خوف وأفكر
كيف يمكن لوهن القلب أن يقتلني فجأة

أشعر بالرهبة تعبرني كنسمة
الوقت يخونني بوقاحة
لم أكن واعياً بخطورة الموقف
وأنا أدخن سيجارتي الأولى
وأنا أشرب كأسي الأول
وأنا أواعد فتاتي الأولى
وأنا أكتب نصّي الأول
وأنا أرتكب الخطيئة الأولى
وأنا أحبك الحب الأول

كنت في العشرين
لم أكن موهوباً
لم أكن ذكياً
لم أكن شجاعاً
كنت طفلاً في العشرين
عرفت حياته تغيرات صادمة
عرف قلبه رجة قاتلة
بكى وحاول استيعاب الحياة كما هي
لو كنت مكان الجد الذي نهره عن تقبيل حفيدته ذات يوم
وصفعه صفعة جرّدته من كرامته
كنت نصحته نصيحة أبوية
حين تحاصرك وحدتك اللعينة
فكر في البقاء على قيد الحياة
قلمك وربك وحبك الأول وجرعة الدّواء
مخرجك للوجود ومدخلك للفناء
كنت أنقذته من عناء التشرّد على أرصفة المدن القاسية
كنت أنقذته من وحدته ورسمت له طريقاً مغايرة

وحيداً أقف عند حاجز الغربة
أسمع لحن النّاي الأبدي
لحن الأسطورة يربطني بالسحاب
خضرة عينيك تربطني بالوجود
أغزل ما تبقّى من غربتي على منسج القلب
أكتشف فجأة أنها كل ما تبقّى من خيوط العمر
بحثت لها عن اسم وصورة ورائحة
أردت أن أخلّدها
لا فائدة
شيطان الرحيل مختبئ في شراييني
هذا البدوي الأخرق لا يترك أمامي فسحة للتفاوض
وحدهما عيناك تعيدانني إلى أرضي
فكيف تكون أرضي إن لم تكوني؟

أهديك رسائلي
من الأرض البعيدة
يا حب الزمان البعيد
أرض الغرباء والمنبوذين والمشنوقين
هذا الرجل الذي فقدك ذات حرب
يكتب لك في كل ليلة قصيدة
يروي لغرباء حانة الرعد قصّتك الخالدة
يا سيّدة العشق الأبدي
أتركي قلبه يرتاح
نبضه يذبل منذ ألف عام ولا ينطفئ
في كل ليلة يقف أمام الذاكرة
يتلو صلاة العودة ولا يعود
لي شكّ عميق يخامر الرّوح
إلى أي رقعة ينتمي هذا الجسد
إلى أي فكرة ينتمي هذا العقل
المارد القومي يذبحني
معارك النفط والجغرافيا تهدّد البقاء
كيف لطائر البرّّ اليتيم أن يفكر في الهرب؟

الجواسيس في كل مكان
المضاربون يرفعون الطلب
محاط بالأسهم من كل جانب
أمراء الحرب ضخّوا دمي في بورصات العواصم الكونية
من قال أنني أريد مجداً يسجله التاريخ؟
لا أريد أن أكون رقماً في حسابكم
ولا عاشقاً في سرابكم
ولا جنرالاً في معارككم
أريد فقط أن أحلم
حلماً كاملاً
بسيطاً ومعلناً
جميلاً وساحراً
حلما حقيقيّا
هو الحقيقة في ذاتها
لا أوهام صفاتها
أريد كل شيء
كتاباً وقلماً ومحبرة
مبيتاً لائقاً للطلبة
أرضاً للفلاح
يوم راحة لعمّال المناجم
جندياً يحمل ناياً بدل السلاح
موسيقى تأجج الذكريات
فسحة من النكات
بيتاً يؤوي الرجل الغريب
قبلة من ثغر الحبيب
قهوة ساخنة في الصّباح
ساعي بريد دون رقيب
سلّماً يرفعني للسماء فأخاطب الله وأرسمه

رفاقي الأعزّاء
أودّعكم
لقد وقّع الباب العالي مرسوم النفي
لي قبلات الوداع والدموع
ولكم من بعدي الخراب
أعدّوا ما استطعتم من الأمل
ارقصوا على بقايا الحطام
تجنّبوا إغراء الكلام
إني أسمع أصواتاً تناديني إلى الغياب
ولا طريق أمامي سوى إتباعها
أذكركم دون ضغينة
عندما يغفو القمر
لا تشربوا نخبي ونخب المفقودين
لا تنسوا أن تواسوا فتاتي الرقيقة
أخبروها أنني كنت جباناً حتى تكرهني
أخبروها أنني كنت أخونها
كباقي الرجال يخونون وصايا الحب
أما في عيد ميلادها
فأرسلوا لها باقة ورد أحمر
وإياكم أن تغازلوها
فقط راقصوها صامتين
راقصوها بشغف كما كنت أفعل
ولا تخبروها بأنني علمتكم سرّّ الخطوات
أنا أرحل

أفتح قلبي لإمكانيات مغايرة
فرح يأتي بغتة
حزن بطعم المفاجأة
وجع الأغنيات
اشتياق لأشياء البارحة
لبيرم الاسكندرية وبيروت فيروز وتونس الكافي
لعشق المراهقين على مدارج المسرح البلدي
في ساعات سكري الدافئ
أغني كطفل
أتذكر بقايا الحكايات
أبحث عن انطلاقة جديدة
أراجع حماقات الماضي
أستدعي الرب
أحدثه كصديق
أحدثه عن وجعي وحبي وزلاتي
عن خطي المتأرجح بين العشق وتفاهة الموقف اليومي
أحدثه عن العيش في العارء
عن الكبت الجنسي
عن ألم القلب
عن حمّى أطفال الفقراء
أحدّثه عن جرائم الضواحي البسيطة
عن إنجازات الدّولة الدّموية
عن وطني وأمراء الحرب
عن فُتاة أحلامي الذي أدخره لغد أفضل
أحدّثه عن البكاء الصامت للرجال
عن سكر المنفيين في حانة الرعد

رجل أعمى يصرخ في وجه الغائبين
من منكم يريد البكاء؟
في الغابة القطبية معبد يعلّم فيه البكاء
أطلال وساحات حمراء تغذي كآبة الطيور المهاجرة
للدمع طعم آخر حين يمتزج بخمر الحقد
من منكم يعرف كيف يموت الوجد
في ليل ربيع صوفي؟
من منكم يعرف رسم الحد
وروح الخط الكوفي؟
في مثل هذه الساعات من غفوات الليل المسروقة
حين يموت الحب بداء الرّب
أشعر أنني مبتذل وحزين
كل بذاءة هذا العالم لا تشبع غيضي
كل جنون الدنيا لا يحرّك شوقي للرقص
من منكم يريد البكاء؟
ليجلس إلى طاولتي
يذرف في لحظات صدقه ما أمكن من دموع
أمّا أنا فسأكتفي بالحقد
إنه طعم الحب حين يمتزج بالألم
لحظة انفتاح الكلم
حين يخط القلم توقيعي على قصيد يحترق
حين يضيع الحلم وشهاب الليل يخترق كبد السماء
مازلت أذكر قول المعلم حين وجّه خنجره الصدئ إلى قلبي
وعوى كذئب : “كن حاقداً فالحقد سيّد المعلّمين”

تضيع الأيّام
سطور نكتبها بأيدينا ولا نحسن قراءتها
نخوض معارك عابرة
نجتر أحلاماً واهية
نطلب أملاً
نفتح كلماً
نطلق رصاصاتنا دفعة واحدة
نتفرّغ بعد الهزيمة للبكاء
أمقت منفياً
هنا في الضواحي القريبة من العاصمة
أشتاق لوطني
أناديه ليلاً لينام عندي
أتركه صباحاً كعاهرة
أحزم حقائبي وأرحل
أخفي ذعري في محفظة الجيب
أسير على طريق الغياب
العراء مر والهزيمة أمر والإنتماء ترف الأغنياء
هنا في الضواحي الجنوبية للعاصمة
أشعر بالغربة
لم يعد في الوطن مكان يقبلني
في وطني حيث للدمع نهر
وللدم نهر
وللنفط نهر
وليس فيه للحب نهر
وطني أين يموت الأصيل

صلاة الغائبين ترتفع
يا فارس القوم الجائع
أنصت لدعائي
جرّ أعقاب سيفك ومخطوط تعويذتك وانصرف
عصر المعجزات ولّا وانتهى
هذا الجمهور لا يحتاج إلى قضيّة
هذا الجمهور لا يحتاج إلى نبيّ
أتعبني السير في أعقابك
سأغادر المركب وأغوص في الطوفان
انتظر قيام المسيح بمفردك
لن تبصر عورة الملك
ما دمت تنتظر معجزة الخلاص
ستبقى نبيّاً مزيّفاً
نبيّاً تائهاً بلا رسالة
يا فارس القوم الجائع
اترك أعقاب سيفك ومخطوط تعويذتك
اتبع نسيم الجنوب العامر في صدرك
زندك هو الصّديق الصّديق
أترك المناحات والوعيد واستعد للقتال
تمرّ سهام الغدر
قدّم لها صدرك وابتسم
يغازلك الموت في كل ركن
أرقص وابتسم
طالع عدوّك دون خوف
سر في طريقك وابتسم
افتح ذراعك للهوى
اعشق كل نساء الدنيا
أطلق عنانك
واجه عدوّك وانتقم
يا حاملاً حلم العدالة فوق ظهرك، لا تنم
ضمّد جراحك بالتراب واستقم
اختر عدوّك
اختر معركة تليق بك
أقتل العدو في داخلك
القضيّة لن تنتصر بموت الجلاد
وإنما حين يتوقف المضطهدون عن لعب دور الضّحيّة
حين يتوقفون عن الموت دون أسباب منطقيّة
حين يمتصّون الحقد والغضب الأبدي
يحولونه وعياً يجتاح الشوارع الخلفيّة
يا أنبياء الأرض المتعبة
كونوا فرساناً حالمين
انزعوا رداء الحكمة المبجّلة والفضيلة المؤجّلة
أغلقوا المعابد والمساجد وأقيموا الصلاة في قلب المعارك
وجهوا الرصاص لياهوذا المتنكّر بينكم
علّموا الإنسان كيف ينكر دور الضّحيّة
علموا الإنسان كيف يكون نبيّاً

حين ارتفع حاجز الغربة
انتهت صلاتي
نسجت لحناً عربي التكوين
قلبي يؤلمني
الحب يراجع أوتار شراييني
غاب ضوء القمر في عيني
وحين ذكرتك
ذكرت التراب والذكريات والبقاء
قلت أبكي لأنساك
أنحت من طين الشتاء جناحين لصيف العمر
أنا في الهنا وأنت في الهناك البعيد
أين ينسج النور سلامه

يُحكى أنَّ .. كان هُناك ..
قصر حُلو .. بلا شُباك ..
يُحكى أن .. …. …………….
لا أتذكر !! ..
كان الفتية في الطرقات ..
جاء الحارس يركض وثباً .. ليُدافع عن شرف ضاع ..
جاء بوجه عكر أحمر .. جاء يُتمتم عندي صداع ..
وبصوت جهوري أكبر .. صار يصرخ باستمتاع ..
مين هناك ؟؟

ليُجيبه أحد الفتيان بكل براءة ووداع ..

–  إحنا..
إحنا الضعفة والمساكين ..
قصدي عُمال البساتين.

– وبتعملوا إيه هنا؟

– أدينا واقفين على الأبواب
بنروي حدايق السلطان
بنرويها بأمل سادة
بنسقيها بحبوب سكر.

–  حبوب سكر ؟

– تحلي مرارة الأيام
فنحلم من بعيد لبعيد
ببكرة الجاي ونسافر
بخيالاتنا لسنين قدام
فيها الحلم متحقق
وأدينا حاضرين… و بنعافر.

– حاضرين فين؟

– حاضرين هنا.. على الأبواب
بنسقي جناين السلطان
بنسقيها بأمل سادة
بنسقيها بحبوب سكر
بنسقيها…
بغناوي الليل
وصوت القهرة والمواويل
هتاااااف مبحوح يهد الحيل
وحيل مسنود علي حيطة
وحيطة عليلة مكسورة
تشوه منظر الصورة
ومتعكز علي عكاز
أمل سادة .. بلا سكر

–  مش فاااهم!!

– بنسقيها…
بحكاوي شهيد
وحلم مديد يمد لفووووق
بجدر شديد قوي متبت
في الأرض وماليها شقوق
بنسقيها …
بدم رخيص .. لكن طاهر
بجسم يحب يتظاهر
دفاعاً عن حقوق الناس
فيبقا مداس
يقولوا عليه شيطان خناس
يشوه شكل سيد الناس
يفرق شعبنا المحتاس
ومتمول ومتخون
وعقله مريض ودا الظاهر..

– وأرض أسيادنا تطرح إيه ؟

– بتطرح نبت شيطاني
بلا مسقى تلاقيه مخلوق
يمد لفوق
يحاوط قصر سلطاننا
بسيقان وجذور
فيبعدنا عن الشبابيك
ويقفل قفل أي أبواب
ويجري ورانا في الشارع
فنجري ونجري ورا بكرة
ويعلا الصوت
مفيش فكرة في ضمير بتموت
ونجري تاني في بلادنا
ونتخبى في حواريها
ونمنح روحنا واحلامها
لفؤاد طاهر ليحميها
لقلب صغير
ليورثها .. وبكرة الجاي يبنيها

– امشوا من هنا.. بلاش دوشة بلاش صوت …

– نغني سكوت..
فيعلا الصوت في ضمايرنا
وتبقا الغنوة معزوفة
على أوتار قلب شديد
لا بيهابك ولا يخافك
قصاد نابك .. واقف عازف
بقلب أصيل.. يقوي الحيل
ويبني الحيطة تا يرسم
عليها فراش .. عليها ألوان
عليها حلمنا المعشوق
ييص لفوق
يخاطب في السماء صاحبه
يقولو يا صاحبي ألوانك
علي الحيطة
هنا في بكرة
وجيتارك قابل ظالم
فحارب ظلمه بالفكرة

– أرجوكم امشوا .. بكر, بتاعكوا دا مش جاي…..
كاد الحارس يبكي كمداً ..
شعر بأمله يصرخ ألماً ..
ثم ذهبنا إلى الميدان ..
وتركنا قصر السلطان ..
ثم ..
ثم أنا لا أتذكر ..
ضاع الماضي قي المستقبل .

«شابٌ أسمر يرتدي عباءةً بيضاء ويطوف الشوارع كشبحٍ عصري يعتلي درّاجة من أحدث طراز». كان ذلك مشهدٌ ضمن تقريرٍ تلفزيوني في إحدى القنوات الأوروبية حول نوعٍ جديدٍ من الدرّجات الهوائية، يجمعُ بين الدرّاجة وبساطَ المشي الموجود عادة في الصالات الرياضية المُغلقة. ولركوب الدرّاجة الجديدة ما على المرء سوى ارتقاء البساط والبدء بالسير حتى تتحرك العجلات بسرعةٍ كبيرة. الدرّاجة المُبتكرة تلقى رواجاً في قَطَر وغَيرها من دولِ الخليج العربي، كما يقول التقرير، على اعتبار أنه يصعب استخدام الدرّاجة الهوائية التقليدية حينما يكون المرء مرتدياً عباءة فضفاضة.

التفكير بـ «عربي المستقبل» يعيد إلى ذهني صورة ذاك الشاب الأسمر على الدّراجة، أيمكن اختصار مستقبل العربي بمشهدٍ مثل ذاك؟ كما لو أنه ليٌّ لذراع الزمن القادم وتطوّيع له للابقاء على ما يُرى جوهرياً في مظهر العربي وهويته.

إذا ما أجرينا عملية حسابية، طرحنا فيها من صورة العربي فناجين القهوة المُرة، الفارس على الجواد، العيون الحور المكحولة، العباءة والعِقَال، المُعلقات والزير وعنترة وتغريبة بني هلال، العبارات المكرورة في دروس التاريخ والتربية القومية عن وحدة الحُلْم والمصير العربي، هل يتبقى من شيء؟ مكمن الحيرة بأن نعم، هناك شيئٌ ما ملتبسٌ وغامض، يبقى مرتبطاً بكنه الهوية، حتى وإن تلاشى كل ما ذُكر مستقبلاً، وهو فيما يبدو آيلٌ إلى الزوال.

كم باديةً يجب أن تمتدَ في روحِ العربيّ كي يكون عربياً؟ وهل يَحتاجُ لإثباتِ هويته خارطةَ نسبٍ إلى قبيلةٍ مغرقةٍ في القدم؟ التدقيق في معنى أن يكونَ المرءُ عربياً بالنَسَبِ أو اللُغَةِ أو الهَمْ السياسي -وفق التقسيماتِ الشائعة- تزيد الهوية بُعداً عن صاحبها، ربما نكتشف بعد كل هذا بأننا لسنا عرباً كما كنّا نظن، أو لسنا عرباً بما يكفي.

الهوية مُلتبسة لأن خلطاً ما يحصل بين العروبة والإسلام، أو بين العرب والمشرقيين. وفي الحالة الأولى يتم تقليص الكل إلى جزء، وفي الثانية تكون العروبة جزءاً من كلٍ أكبر، أكثر تنوعاً وغنى. بحيث يصعب أحياناً تحديد إن كانت الطقوس والمعتقدات والموسيقى والتراث الذي ننتمي إليه إسلامياً فقط أم عربياً أم مشرقياً. لذلك فالسؤال هنا لا يرتبط فقط بمصير الهوية العربية مستقبلاً، بل يتعلق بمآل الهوية «الأصيلة» المُتجذرة للذين ولدوا في شبه الجزيرة العربية والعراق وشرق المتوسط وشمال إفريقيا.

قد تبدو كلمتا “عربي” و”مستقبل” نقيضتان أحياناً، كما لو أن العربي ولكي ينجو ويحجز له مكاناً في المستقبل لا بد أن يكون أقل عربيةً مما هو؛ عليه أن يتخلص من حملٍ ثقيل ويصبح أكثر خفة، وأشد قبولاً، وأقل إشكالية وإثارة للمتاعب.

بالرغم من تفرّع وتعقد الأسئلة حول الهوية. يُريد تيار الثقافة العالمي السائد للعربي أن يجد نفسه اليوم أمام خيارين اثنين. يتمثل أولهما بالتغريب؛ أي الانصهار في بوتقة الثقافة الغربية وإزالة العناصر العربية أو المشرقية غير المرغوبة. فيما يتجلى الخيار الثاني في حالة نقوصٍ إلى الماضي، تقتصر أحياناً على التعلّق الزائف بالجوانب الشكلية من التراث والتقاليد واللباس، أو تأخذ طابعاً مُتطرفاً رجعياً على صورة ردة دينية أو سلفية. وكلا الخياران يُحتّمان بالمعنى العميق «اختفاء» أو «زوال» العربي من لوحة المستقبل. لأن العربي لن يعيش المستقبل حقاً إن كان أسير محاولات محاكاة أسلافه وتمثّل عقليتهم. وهو لن يكون عربياً أيضاً إن تخلّى عن جميع العناصر والخصائص التي تجعله عربياً حقاً، لصالح ثقافة سائدة تصهر جميع الثقافات حتى تُخرج منتجاً رائجاً «وسهل الاستخدام».

المُستقبل مثقلٌ بأسئلة الحاضر، والأزمة بذلك لا تخصُّ العرب وحدهم بل تنسحب على كل الشعوب والحضارات المهددة بخسارة إرثها الثقافي والحضاري أمام العولمة. وبذلك قد يكون الأجدى هنا السؤال عن العناصر الأكثر جوهرية  في هوية الإنسان الحديث الذي صدف بأن وُلد هو أو أجداده في هذه المنطقة التي باتت تسمى مجازاً الوطن العربي. ما المكوّنات الثقافية والسياسية والحضارية التي يجب أن يحملها في حقيبة سفره إلى المستقبل، وما سقط المتاع الذي سيخلّفه وراءه خلال عملية الارتقاء تلك.

الأكيد أن العربية كلغةٍ واحدة من أهم العناصر التي يجب أن تبقى، إن كنّا نتخيّل مستقبلاً لا يخلو من عربٍ. ولكي تستمر لا بد أن تتجاوز الصبغة الدينية التي حفظتها يوماً وأدت إلى تطورها وانتشارها. بحيث تكون لغةً حيّة مِطواعة، لينة، مرحة. لغةٌ مُتَيقظةٌ مستعدة للمخاطرة، غير هيّابة من التغيير.

أما المستقبل، فهو يعرّف أحياناً بأنه الزمن الذي لا يأتي. لأنه وبمجرد أن يقترب يصبح حاضراً ثم ماضياً. كما لو أنه سرابٌ لا يمكن إدراكه، أو لحظةٌ تتسرب بين أصابع اليد. الزمنُ الحقيقي لا يشبهُ زمن السينما؛ لا وجود لآليات القطع والتسريع التي تتجاوز السنوات غير المرغوبة وصولاً إلى لحظة تُسمّى مجازاً «مُستَقبل». لذلك فعربي المُستقبل، هو عربي اليوم الذي يقف حائراً أمام الأسئلة التي تؤرقه: هل يريد أن يكون عربيا بعد؟  وهل يستطيع أن يكون عربياً بحق، متجاوزاً بذلك شتى التنميطات التي كبّله الغرب بها، أو استسلم هو لها طواعية.

الساعة الخامسة وخمس وأربعون دقيقة. أكتشف حانة جديدة في ضاحية حلق الوادي حدّثني صديق لي في العمل عن أجوائها. قررت زيارتها ولحظّي السعيد كان عيد إفتتاحها الأول. “هابي هاور” كامل السهرة. سعر قارورة البيرة ثلاث دينارات. كان يوم عمل مقرف ومنهك ولا يمكن لخبر في العالم أن يسعدني أكثر من هذا.
الأجواء صاخبة، الكثير من الدخان، موسيقى إسبانية تتردد داخل المكان، فتيات يرتدين قبعات “الكوي بوي” وأخريات يدخن السيجار. براميل خشبية مكان الطاولات، براميل صغيرة تزين المكان، براميل الخمر التي تنقلها السفن القديمة فقدت رونقها وتحولت إلى متكآت للمتكرشين.
تقدّمت قليلاً، لم أكن من زبائن الحانة، لست من هواة الأماكن الصاخبة، لكنني اليوم قررت تغيير عادتي واكتشاف مكان جديد. طبقاً للتقاليد ومع بداية كل شهر أسحب ربع راتبي وأزور مكاناً خراج المدار اليومي لتحركاتي.
وقفت في الوسط، جثتي ثقيلة، مرتبك، لكل فضاء أعرافه، أي مكان على الزبون الجديد أن يحتل، أي مكان مخصص للغرباء في هذا العالم الصغير الصاخب. وجدت نفسي قبالة طاولة كتب عليها “محجوز” باللغة الفرنسية. رفعت رأسي، حاولت أن أتقدّم دون أن أثير الانتباه. لا أدري سبب هذا الارتباك. المهم، وجدت نفسي أتجه نحو الكنتوار الرئيسي وأزيح
كرسياً ذي سيقان طويلة وأجلس كأني بطل فيلم هوليودي .
خرافة الأفلام الهوليودية، بطل بجاكته الجلدية، سجائر مالبورو حمراء، كأس مزدوجة من الويسكي الفاخر، يهابه الجميع، نظراته قاسية، مخيفة، يتجاهل ساقي الحانة، يشتمه أحياناً، لكنه دائماً ما يكون لبقاً مع الزائرة الجديدة، صاحبة الثوب الأحمر والمؤخرة المكوّرة، تفتن الرجل الحديدي بنظراتها وطلاء أظافرها الأحمر .
“تفضل، أي طلبات ؟” هكذا سألتني ساقية الحانة، تبدو صغيرة، شعرها قصير، وشم يزين ساعدها الأيمن. تفطنت لنظراتي. ضحكت: “لا معنى له، حماقات المراهقة“. أجبتها بابتسامة ودودة، كأني أتفهم الأمر: “بيرة، باكس لو سمحت”.
الساعة الثامنة. شربت تسع زجاجات. مفعولها يتسرب متثاقلاً داخل هذه الجمجمة اللعينة. راق لي المكان. استمتعت بالموسيقى، أغاني فولك وروك كلاسكي وكاونتري. بدأ الزبائن المخلصون بالتوافد. المكان يضج بالبشر. لم أرغب بمراقبتهم، تصرفاتهم الحمقاء تعكر مزاجي. أردت فقط قليلاً من الونس الرّاقي. أدرت الكرسي نحو مجموعة من الفتيات يجلسن في الجانب الآخر من القاعة.
لفتت انتباهي إحداهن، جميلة من جميلات هذا الكون، جزء من مؤخرة العالم، حسب تقديري البسيط يمكنها منافسة جنفير لوبيز. بدون تفكير، طلبت من النادلة أن تراقب مقعدي واتجهت نحو بطلتي حالماً بليلة حميمة أتفاخر بها غداً أمام أصدقائي في العمل.
“مرحبا” قلتها وأنا أشعل سيجارتي بعد أن وضعت قارورة البيرة على منضدة الفتيات بكل وقاحة متمادياً في دور البطل الهوليودي. هذه اللعنة التي ترافقني دائماً في حواراتي مع النساء. لم أتلقى أي رد، مجرد نظرات تحاول تفكيك هذا الرجل غريب الأطوار. سحبت نفساً وتجرعت قليلاً من البيرة وأكملت الحوار “المكان جميل، أعجبني، أحس بنوع من الألفة رغم أنها زيارتي الأولى”. لم تتمالك إحداهن نفسها، ضحكت وواصلت تجاهل وجودي. كان من الواضح أنه غير مرحب بي، لكن كعادتي وبعد القارورة التاسعة، لا أشعر بالخجل، كما أن ضحكتها الخفيفة شجعتني على المواصلة. طلبت من فتاتي بكل لباقة إن كانت راغبة في إستنشاق بعض الهواء النقي فرفضت. لم أشعر بالحنق، في هذه المواقف تسعفني الروح الرياضية. تقبلت رفضها بابتسامة وعدت إلى كرسي ذي السيقان الطويلة.
جلست على الكنتوار بعد غزوتي الفاشلة. تراخيت على الكرسي مراقباً القوارير الفخمة المعلقة، سمعت صوت ضحكات رقيقة تنساب تحت إبطي. تجاهلتها، شعرت بإرهاق مفاجئ. في تلك اللحظة لم أكن راغباً في التعامل مع الملامح البشرية.
“هون عليك. لما هذه السحنة. لكن حتى أكون صريحة، أسلوبك في الحديث مع الفتيات غبي. مثلك مثل الجميع. لن – تستطيع أن تقنعها بهذه الطريقة. أي شخص يمكن أن يكون راع بقر أخرق، لكن هناك دائماً دون خوان واحد.” ثم واصلت قهقهتها الساخرة.
شعرت بالحنق، تأكدت أن كلامها كان موجها لي. تمالكت نفسي. استدرت نحوها بهدوء مصطنعاً اللامبالاة. “عذراً؟”.
حاولت أن أرد هجومها. لكني حين نظرت إلى عينيها عرفت أن معركتي خاسرة مسبقاً، فأنقذت نفسي بابتسامة رقيقة.
ضحكت، حركت شعرها، مغرية، دارت نصف دورة، كل تفاصيل جسدها صارت في متناول نظري. دون أن أطيل الوصف، كانت ناضجة، امرأة في الأسبوع الأخير من الربيع. زهرة المشمش تفتحت بتلاتها وداعب النسيم رحيقها. كنت سأنطق بحماقة جديدة لولا أنها قطعت الطريق وأنقذتني للمرة الثانية.
– “يبدو أنك رجل لبق؟ كنت أراقبك قبل أن ترتكب حماقتك. لا تأخذ كلامي كإطراء، لقد جلبت انتباهي لأنك جديد. رواد هذه الحانة معرفون في جلهم، منتظمون، خصوصاً رواد الكونتوار”. وغمزت بعينيها غمزة خبيثة.
– “لا أفهم ما علاقة لباقتي بالكونتوار ولكن معك حق، لست من رواد الحانة. هذه زيارتي الأولى. عندما وصلت كانت الأماكن شاغرة ولم يخبرني أحد أن كراسي الكنتوار محجوزة.”
مررت نظرة خاطفة على ساقيها، طلاء أظافرها المغري، رفعت رأسي لأجدها مندهشة من أسلوبي الفج في التكحيل.
ابتسمت. اصطنعت الصدمة. لكن رنين الهاتف الجوال قطع حوارنا اللطيف. هرعت إلى ركن منعزل في البار حتى ترد على المكالمة. عندها طلبت قارورة البيرة العاشرة وأخذت أخربش بعض الكلمت. هذه من بين عاداتي. أحاول في كل ليلة كتابة بعض الأسطر بدل السهر على صفحات الفيسبوك وارتكاب حماقات جديدة.
“كانت تدخن سجائر من نوع سليمز، أناملها رقيقة، أنوثتها طاغية، لون أحمر الشفاه يصبغ عقب السيجارة، عطرها
فخم، رائحته أنعشتني، نظرتها أسرّتني، امرأة الربيع المكتمل داعب النسيم نهديها فبكيت…”
بدأت كتابة هذه الكلمات بينما كانت تجيب على الهاتف، سرحت، استرسلت، لم أتفطن لليد التي امتدت تنتشل من بين أصابعي آلتي الصغيرة. كانت هي. حاولت منعها لكنها كانت الأسرع. ابتعدت قليلاً، قرأتها وبدل أن تقهق بسخرية ابتسمت ابتسامة طفولية.
دائماً ما كنت أستمتع بمراقبة ملامح الفتيات وأنا أقدم لهن نصاً ليقرأنه، أراقب انفعالاتهن، ملامح الدهشة، الحزن، التقزز في بعض الأحيان، أراقب كل شيء بينما أدخن سجارتي معتقداً أني هنري ميلر ينتظر ردة فعل أناييس نين . كنت أقدم نصوصي لصديقاتي فيسخرن مني. هذه المرة فاجأني القدر، المكان غير معتاد، فتاة مجهولة كادت تذرف دمعة على
إيقاع حروفي المبعثرة.
احمرّ خدّاها وأشاحت وجهها. ارتبكت. كيف يتصرف الأبطال الهوليوديون في مثل هذه المواقف؟ سحبت منديلاً من فوق
الكونتوار وقدمته لها. وضعت الهاتف، مسحت خطاً أسود سال فوق وجنتيها وابتسمت. طلبت من النادلة أن تحضر كأس ماء للسيدة، تفاجأت النادلة: “مدام أماني؟ هل أنت بخير؟ ” أجابتها: “بخير، عيشك.” ترشفت الكأس وعادت لتقرأ النص مرّة ثانية. فتاتي الحزينة لم تعد مجهولة الهوية الآن.
– أماني، لا بأس؟
– صرت تعرف اسمي الآن.
– اسمي أمجد.
– سعيدة بمعرفتك، أعذرني، تصرفاتي غريبة، أحرجتك، جعلتك ترتبك، لم أتعوّد على رجال يكتبون نصوصاً جميلة عن امرأة يرونها للمرة الأولى، كنت أظن أن هذا لا يحدث سوى في الافلام، هنا أكثرهم لباقة يهدي حبيبة ليلته قارورة بيرة.
– أتفهم الأمر، لكن صدّقيني الهدف واحد في كل الأحوال، كل رجل يجلس على الكونتوار ويقدّم هبته بسخاء ينتظر مقابلاً.
– أنت لم تقدّمها، أنا انتزعتها منك.
– ما أدراك؟ ربما كنت سأنتهز الفرصة وأقرأ النص في الوقت المناسب.
– لا تبدو بهذا الخبث.
– لكل شيطانه الأخرس.
– شيطانك ليس أخرساً، شيطانك يكتب.
– حسناً ما رأيك أن نحتسي الجعة على شرف هذا الشيطان؟
– موافقة، لكن من يدفع؟
– طبعاً، كما يقول العرف، أنا أدفع؟
– وقح، سأدفع أنا.
– لن أرفض، لكن طبقاً للقاعدة سأكون مجبراً على تقديم المقابل.
– طبعاً، ستدفع الثمن. هل ترى ذلك الرجل الذي دخل منذ قليل، ذلك الأصلع، وجه البومة الذي يجلس في مدخل الصالة.
– نعم، أراه.
– هو صاحب المكالمة وهو صاحب الحانة، حاولت التملص منه، لا فائدة، لا أريد مجالسته، سأمسك بيديك وما عليك سوى أن تتظاهر بأنك رفيق ليلتي.
أومأت برأسي موافقاً دون أن أتكلم. تراكمت الأفكار داخل جمجمتي. إنها فرصتي اللعينة. تشابكت أيادينا. تحاشيت النظر مباشرة في عينيها. انتصبت. تنحنحت. اكتشفت بنت الكلب ذلك فمالت على كتفي، قبلتني من خدّي. شراييني تفسخت من فرط الشهوة. لم أعد قادراً على المقاومة. أحتاج إلى قليل من الهواء. أطفأت سيجارتي وخاطبتها: “أماني، ما رأيك في مغادرة هذا المكان، لنتسكع في مكان آخر، لا أشعر بالألفة هنا. بيتي ليس بعيداً، إذا أردت يمكننا إكمال السهرة هناك، لدي قارورة نبيذ فرنسية معتقة، سنتقاسمها، سنتحدث عن أشياء جميلة.”
ابتعدت عني بعنف وفي عينيها نظرة عتاب: “أمجد، يبدو أنك فهمتني خطأ، أنا لست عاهرة…”
– لم أقل هذا…
– قصدت هذا
– أبداً، لست أحمق، أشتهيك هذا أكيد، لكن دعوتي كانت…
– بريئة؟
– ليس لهذه الدرجة، قالها وهو يقهقه، لن أتحول إلى ملاك فجأة، فقط لا أشعر بالراحة في مثل هذه الأماكن.
– إذاً أين تجد راحتك.
– في بار الطاوس.
– إذاً أسدي لي هذه الخدمة، ابق معي حتى ييأس وجه البومة وبعد ذلك يمكنك المغادرة إن شئت، أنا يعجبني المكان.
– حسناً.
– عزيزي أمجد، لا تكن كئيباً، سأسليك قليلاً، سأحدثك عن حكاية وجه البومة.
– لا أريد أن أسمع قصّته.
– لا تغضب.
– لست غاضباً، فقط حدّثيني عن شيء آخر.
– مثلاً؟
– كيف يمكن لرجل أن يقع في حب امرأة منذ اللقاء الأول.
– أنت تراوغ، لست سهلاً يا أمجد، سأحدثك عن شيء آخر، سأخدّثك عن امرأة وقعت في حب رجل منذ النظرة الأولى.
ثم اقتربت منه وقبلت شفتيه بشغف.

في بلد
لا خوف فيه
من أحد
طفل اتولد
اسمه هزيم الرعد
تلميذ مجتهد…
قصف البرد
مات الشاه
أصبح الملك
جاهل مستبد
الحاشية قرد
للقمع مستعد
كحكاية الثور والأسد
القاضي مجرم
المتهم شعب مضطهد
هزيم يبني
القردة تهد
هبل وفي مخه صمد
بوهج أفكاره ارتد
وشم أحلامه على الجسد
ناسه “ميتال هاد”
صحابه خرد
مد اللعبة شد
فلوسك عد
قطع رافل هد
خلف القضبان تشد
تحصر تخنق وفد
يده يدك يد
لبد عقله جمد
فرد جبد
انتحر هزيم الرعد
أصبح
ملحد في الرب يحمد
مشارك في لعبة النرد
قانونها واحد
الحكم المعتمد
تؤكل من الكبد
والخاسر يقيم عليه الحد
من الجولة الأولى رقد
في باله صنديد
ويعرف يعد
واصل للثانية
تجلد
في الثالثة
الطريق تسد
فسد
العقاب
تسأل من تكون! من أنا !!
أنا الفقير، أنا العبيد
أنا الغبي، أنا الوطيد
أنا المكبوت، أنا الطاغوت
مصيرك “أكوانيل”
أم سجين كفلسطين
أفيون في سكون
يرقصون…
كأحلام في منام…
يصبح
انقلاب في بلاد
العذاب والخراب
انكساح اكتساح
تمتزج تنفجر
تنتفض تستمر
ثورة تكتمل بقلم
اكتب ارسم
ترتفع
تقاوم الألم بعمل من العدم
تسرق تشنق
بكتاب من الورق
تزرع تحصد “أفيون”
في سجون
من تكون؟
أنا؟
أنا الزمان
أنا المكان
أنا إنسان
فنان …
تبدع ؟ أبله
تكفر… تمنع
تقطع تردع
تقمع تركع
ترضع تبلع
تصنع تخضع
ترضخ
انتبه!!
أركح أسرح
تنبح في مسرح
تنطح تذبح
تسلخ تنكح…
تكدح… تنجح ؟؟
أمام شعب فتاك
ممنوع الاحتكاك
للقواعد انتهاك
ارتباك
رضيع ملاك
معتصم
إلى سماك غناك
نفاق
فاق… على النعاق
اختناق
الحرية في أطباق
وعبد الرزاق… قاطع الأرزاق
المهنة حلاق
أو في الأقصى
أقصى الزقاق
ملاك يفرق في الترياق
للظلام اعتناق
والحلمة حراق
للعراق
بلد البوشناق
سباق السراق
نحو ميثاق
ملصق بالبزاق
المعتصم
بالأغلال يساق
استنطاق
التهمة للورد استنشاق
يسأل
أين الرفاق
علي بهم الالتحاق
نحن أولاد الأنفاق…
العالم رواق
نحمله على الأعناق
محيط من الأعماق
صياح الأبواق
ولحن الأجواق
لسحق الإرهاق
وتحرير الأشواق
وبسط الأمشاق
من منصة الإطلاق
سنطلق…
العراك، الفكاك والفتاك
الحراك والحكاك
الأسلاك والأشواك
ال ل ي سماك ونساك
أولاد “السيريلاك”
واللي يحلم ب”الكاديلاك”
اللي يعدي ب”البلاك”
و”الكونياك”
اللي لعبلك على غداك
الكعاك وصاحب الانتهاك
المغروم بالافتكاك
والامتلاك
اللي يعدي عل الاستهلاك
وفي الأحزاب اشتراك
واشتراك
للمشكاك
سلم وسلام
ارتباك
أمام شعب فتاك
رضيع ملاك
ابن الأنفاق
هزيم الرعد
القاسم مشترك
ثورة للأبد…

الحياة أو الموت البطيء … استاقتني الأولى وسرت على جانبي الأخرى هكذا عَهَدتُ استِلامي لي بلا أسامي … لأبقى حَصْراً لقلّة من مَعانٍ.
 

عَرَبِيٌّ أنا … مَنْ أنا؟
غَرْبِيٌّ بالتَبَنِّي … شَرْقِيٌّ  بالأصْلِ بالعِرْقِ … بالقَلْبِ
فَهَلْ أنا الفاقِدُ للمَجْدِ أَمِ  النَّاثِرُ للعَذْبِ؟
فَدَعوني أرجوكُمْ دَعوني أُجيب
وٱدعوا لي إن كُنتُم مِنَ  الأَهْلِ بالسَّهْلِ للأَخْذِ منِْ رٌبِّ ذالِكَ النَّبْعِ
فَإِنِّي أكادُ أَلفَظُ أَنْفاسي و أنسى أطماعي
أَنْدَلُسَ الفُرْسِ حَبَشَةَ التُّرْكِ
وَها هُنَا أَمَازيغَ  الدَّمِ رَغْمَ صَلابَةِ السَّيْفِ وطولِ الرُّمْحِ و غَدْرِ السَّهمِ
لانَزالُ ها هُنا أباً و أُمْ عَنْ إِبْنٍ ٱبْنِ إِبْنْ
يَهْوى الذِّكْرى كَي لا يُنسى فَيُعاد
حَتَّى يَظْهَرَ الحَقُّ الحَاقُّ فمَنْ غَيْري يَوَدُّ اللَّحاقْ
بِاسْمِ الرَّبْ … بِاسْمِ الرَّبِّ  وباسْمِهِ على الأفواهِ
ٱقْتَتَلَ وٱعْتَدَى الأَخُ على الأَخْ …
صَلَّبْناَ الرَّسولْ ،وتَقَوَّلْناَ على أنَّهُ كانَ مُجَرَّداً
ذَالِكُمْ هَلْ ضَحَّى فَكَيْفَ أضْحى بالذّاتِ ٱبْنَ الرَبِّ الرَاسِلَ فَالمَرسولْ
هَذا مِنْ بَعْدُ  أمَّا قَبْلُ … آشُورَ بـَابِلَ و أَلْواحِ الأَحْجاَرِ و الطِّيـنِ و المَسَامِـيرِ الغَابِـرةْ
التي تُوخِزُ و تَنْغَرُ فَتَخْتَرِقُ  بـَـالي فَتُنْشي جَوارِحَ فُؤادِيَ
نَثَـرْتُ عَنْهَـا بَعْدَ التَّنْقيبِ و الحَفْرِ … ما ظَلَّ مِنْ غُبـاَرٍ عَلى جَنَبِ رُفَاةِ أَجْدادِيَ
حَتَّى فَقَدْتُ الظَّاهِرَ مِنْ أَبْصَارِيَ  …
فَسَمِعْتُ أصْدَاءً  لِلْحِينِ  تُؤرِقُ خَاطِري المَسلُوبَ عَلى أَنْقاضِ الآشُورِ و المَمَالِكِ السَّرْيـانِيةْ
فَكَمْ حُدِّثْـنـا بِعُظماءٍ بَنُو الماضي و إن رَحَلو بَقينَا  على أبْوابِهُُمُ و على أعْتابٍ مِنْ ذِكْرٍ
و حِكَمٍ  حَرِصنا  عليها  فاليَوْمَ و للغَدِ أُحْضِرْنا
فَمَوْعِدُ  العَدِّ  ٱنْعَدْ … السّابِقُ آبِقُ ، و المُمَهَّلُ آهِبُ
أنا السَّائِلُ الجاهِلُ …لِجَوابٍ ٱنْهالَ مِنَ العِلْمِ الوافِرِ
أَيْنَ الدَّمُ… أيْنَ ٱنْساحَ و هَلْ الإلْتَأَمَ الجُرْحُ و زالَ النَّدْبُ
و لَإِنِّي أَعْجَزُ عَنِ الحَديثِ عَلى أَصحابِ مُحَمَّدٍ  و أهْلِهِ ، و ما حَلَّ بِجَزيرةِ العَرَبِ
أَتَحَاشَى ذِكْرَ رِفَاقِ موسى و آلِهِ ، تِرْحاَلَهُمُ مابيْنَ النَّهرِ و النَّهرِ  وحَالِهِمُ

أَيُّ نِــيلٍ نِلْــنـاَ … و عَلى أَيِّ فُراتٍ  ٱفْتَرَينا و ٱفْتَرَقْنـاَ
بِمَا يَجُولُ في الذِّهْنِ مِن ٱرْتِمَـاءْ على المَوْجُـودِ مِن ٱنْتِمَـاءْ
كَمَنْ يَفْصِلُ المَاءَ عَنِ المَاءِ … بَعْضُهُ تَحْتَ الأَرْضِ ، الآخَرُ عَلَيْهـَا والبَاقي يَعْلُو إلى أَنْ تُعيدَهُ السَّماءْ
كَفِكْرةٍ… فَمَبْدَأ لِصِراعٍ مُشَرَّعْ
لَمْ تٌعْجِبني لِوَهلةٍ أبَداَ…
و لَمْ تُقْنِعْني بِالمَرَّةِ أسَفاَ
سَلِيلُها الجُرْمُ السَّاقِطُ المُنِيرُ لِلمُحِيطِ
والمُحْتَرِقُ إلى أنْ يَسْقُطَ على السَّافِلِ أَيْنَماَ وُجِدَ
ضَرْبٌ  مِنْ مُثُلٍ هذا … لِجَمْعِ ما ٱجْتَمَعَ مِنْ شَتاتٍ أبَى إلاَّ أن يُفَرِّقَ  المَشْمُولَ بالعِنادِ البائِدِ و إن بَدَا  في بادِئِ البَدْءِ  أَمامَ بِرِّ البُرْهانِ ناكِراً جاحِدَا
يُسْراً يُسْرَا فَجُزْءً جُزْءَا تَشِيئُ الأشْياءُ فَتَغْدُو  أُخْرَى
فَما مِنْ ثابِتٍ في حَياةٍ مَأْخوذَةٌ حَتْماً بَعْدَما تُؤْتَـى
أَمَّا أيَّامُنا هَـاتِهِ أَهْوالُنَا …صائِبَةٌ أَصَابَتْ عُصْبَتَنَا و نحْنِ عَنْ سابِقِينَا غَيْرُ آبِهِيـنَ
فحاضِرُنا ٱمتِدادُ ماضِينـَا  والمُقْبِلُ نِتاجُ عُصارَةٍ مِنَ المُجْمَلِ و بِماَ تَقْدِرُ على حَمْلِهِ عُقولٌ
تُحَرِّكُ أَيـَاديِنـَا
إن قُلْتُ أَناَ لَسْتُ أنْتَ صَدَقتُ
و إِن أَضَفْتُ أنا أنْتَ كذالِكَ ظنَنْتُ إلى أن صُدِّقتُ
عَرَبِيٌّ أنا … مَنْ أنا؟